عندما يصبح التاريخ أداة دعائية، فهل من الحكمة أن نثق به؟ |
|
د. أليكس ماليت |
عندما يصبح التاريخ أداة دعائية, فهل من الحكمة أن نثق به؟ د. أليكس ماليت* ترجمة: langvara.com لقد ساهمت بعض الأحداث التي وقعت في الماضي, قريبًا كان أو بعيدًا, ولازالت تسهم في تحديد اتجاهات العالم المعاصر, وخاصة عندما يُنظر إليها كمعيار تستند إليه الأمم في بلورة اتجاهاتها ومواقفها من الأمم الأخرى. ومن بين تلك الأحداث مذبحة القدس التي أعقبت وقوع المدينة في أيدي الفرنجة في الحملة الصليبية الأولى (First Crusade) في يوليو 1099. وعلى مدار التاريخ الإسلامي الطويل, يُعد هذا الحدث نموذجًا للمواقف الغربية تجاه الإسلام والمسلمين. وإذا قمنا بدراسة وصف المسلمين لهذا الحدث, كتفسير ابن الأثير مثلًا, لوجدنا أن تفسيرهم يتمتع بدرجة كبيرة من السلبية, كما يظهر في المقتطف الصغير التالي:
"فلما وصلوها إليه حصروه نيفا و أربعين يوما... ولبث الفرنج في البلدة أسبوعا يقتلون فيه المسلمين... وقتل الفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا من المسلمين، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين و عبّادهم و زهّادهم ممن فارق الأوطان و جاور بذلك الموضع الشريف."
. . غير أن الأبحاث التي أجريت في الآونة الأخيرة توضح أن القدس، التي كانت في ذلك الوقت بلدة ريفية نائية، لم يتجاوز عدد سكانها حوالي 000 25 نسمة. ربما كان هناك بعض الأسباب التي دعت إلى المبالغة في حجم خسائر المذبحة بهدف إثارة بلبلة حول الموضوع, لأن التركيز على مسألة القتل, وخاصة إذا كان الضحايا من المسلمين المتدينين, يوحي بما لا يدع مجالًا للشك أن الكاتب كان يرغب في إثارة استجابة عاطفية في جمهوره. وبالتالي, فمن الضروري عدم التسليم بصحة ما نقوم بقراءته في الكتب قبل التعمق فيها والتأكد من عدم وجود مشاكل نصية أو أسباب تحول دون الوثوق فيما ترويه من أخبار.
لقد كتب ابن الأثير هذه المدونة التاريخية في مطلع القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي, أي بعد أكثر من مئة عام على مرور الأحداث التي الواردة فيها. ولو عدنا إلى الخلف قليلًا, أي في حقبة قريبة من وقوع تلك الأحداث, فمن المتوقع أن تجد وصفًا لهذه المذابح الضخمة في النصوص المكتوبة في تلك الحقبة. ولكن ليست هذه هي القضية. لقد كان ابن العظيمي الحلبي أول عربي يسجل استيلاء الفرنجة على القدس وذلك في ثلاثينيات القرن الثاني عشر الميلادي, وفيه يصف الكاتب الأحداث المدمرة بقوله "تقدم الفرنجة إلى القدس واستولوا عليها من أيدي المصريين، وأضرموا النار في الكنيس اليهودي, وأصبحت تحت حكم غودفري." وبعد فترة وجيزة جاء مؤرخ آخر من أهالي دمشق ويدعي ابن القلانسي في خمسينيات القرن الثاني عشر الميلادي وكتب شيئً قريبًا جدًا من ذلك, وجاء في كتابه فعاود الإفرنج الزحف إليه وطلعوا البرج و ركبوا سور البلد فانهزم الناس عنه و هجموا على البلد فملكوه و انهزم بعض أهله إلى المحراب وقتل خلق كثير و جمع اليهود في الكنيسة و أحرقوها عليهم" ويجدر بالذكر هنا أن كلا الكاتبين لم يركزا على المذبحة التي ارتُكبت بحق مسلمي القدس, التي تعتبر شبه منسية في كتاباتهم, بل ركزا على اليهود الذين قُتلوا آنذاك. إذًا, كيف يمكن تفسير هذا التغير الكبير في منظور هذين الكاتبين السوريين الذين عاصرا الأحداث من جهة وهذا المؤرخ الموصلي الذي أتى بعدهم من جهة أخرى؟
. . للإجابة على هذا السؤال، كان من الضروري تحديد أول من قام بتسجيل الأحداث بالطريقة التي اتبعها ابن الأثير في كتاباته. فاتضح أن أول من قام بذلك هو واعظ بغداد الشهير, ابن الجوزي, وذلك في كتابه التاريخي "المنتظم". وفي هذا الكتاب نجد مجموعة من الجوانب التي ترجح ما ذكره ابن الأثير, ومنها الحصار لأربعين يومًا وقتل 70000 شخص وقتل المسلمين المتدينين وما إلى ذلك. ومع العلم بأن القارئ المسلم سيفهم من الوهلة الأولى المغزى والأهمية الدينية لهذه الكلمات، فكان لابد من اختيار الكلمات التي تستثير عاطفة القراء المسلمين. إذًا, فلماذا ذكر ابن الجوزي هذه الحقائق التي اتضح أنها محض اختلاق؟ ولماذا اقتفى ابن الأثير أثره وكرر كلماته ولم يلتزم بروايات المؤرخين الأسبقين؟
للإجابة على ذلك يجب الأخذ في الحسبان الظروف السياسية التي كُتب في ظلها هذا الكلام. لقد كُتبت المخطوطات السورية القديمة في وقت كان يسود فيه وئام, كان يرتقي في بعض الأحيان إلى التحالف بين المسلمين والفرنجة. أما ابن الجوزي, فقد كتب مؤلفه في ذروة حملة صلاح الدين للجهاد ضد الفرنجة، والتي تم خلالها بذل جهود ضخمة لتعبئة العالم الإسلامي للانضمام إلى جيش صلاح الدين لاستعادة الأراضي المفقودة في سوريا. فأرسل صلاح الدين الرسل إلى جميع أقطاب العالم الإسلامي لطلب الجنود، بما في ذلك العراق، وكانت الكتابات التاريخية, ومنها وصف ابن الجوزي, جزءًا من الجهود المبذولة لتعبة المسلمين وحثهم على القتال. فاختار ابن الأثير اتباع هذا النهج بسبب اتفاقه مع رؤيته الخاصة للوضع القائم في العالم الإسلامي آنذاك. بيد أن ابن الأثير كان عضوًا فاعلًا في حملات صلاح الدين ضد الفرنجة في عام 1188، وقد تحدث في كتابه عن تواطؤ حكام المسلمين في ذلك الوقت عن القتال ضد الفرنجة. ويرجع اختياره لابن الجوزي كنموذج يحتذى به في كتاباته إلى اقتناعه بوجهات نظره الخاصة بشأن الوضع الجغرافي السياسي في سوريا في ذلك الوقت، فضلًا عن أهمية مدونته على وجه العموم. من هنا كان كتاب ابن الجوزي مرجعًا قياسيًا لابن الأثير جعله يغض الطرف عن الكتابات التاريخية الأخرى.
. . كما ينطبق الشيء ذاته على الروايات اللاتينية التي تحدثت عن استيلاء الصليبيين على المدينة, ومنها مدونة ريمون أغيلرز التي تحكي أنه في أعقاب المجزرة "كان الرجال يمتطون جيادهم في هيكل سليمان (الحرم الشريف) وسط برك الدماء التي وصلت إلى ركبهم وألجمة خيولهم." فيتضح من هذا أن هناك تقاربًا بين تلك الرواية وما ذكرته روايات الكتاب المسلمين من حيث أعداد القتلى. ومع ذلك, فإن وصف الدم الذي تدفق حتى وصل إلى ألجمة الخيول قد اقتُبس بصورة مباشرة من سفر الرؤيا، آخر أسفار الكتاب المقدس الذي يصف نهاية العالم "وديست المعصرة خارج المدينة فخرج دم من المعصرة حتى وصل إلى لُجُم الخيل. .." (سفر الرؤيا 14:20) لذلك فمن الواضح هنا أن ريمون لم يكن يقدم سردًا لما حدث فعلًا, ولكنه كان يصف معنى الاستيلاء على المدينة حسب فهمه هو. وعندما تحدث عنه في سياق الكلمات المقتبسة من سفر الرؤيا, فكأنما كان يقول لقرائه إن وقوع تلك المدينة كان بمثابة إحدى علامات النهاية, أي أن العالم على وشك الزوال. ونخلص من ذلك أن هذا الكاتب المسيحي قد اتبع نفس المنهج الذي اتبعه نظراؤه المسلمون من حيث المبالغة في وصف ذلك الحدث بهدف خدمة بعض الأغراض الخاصة عن طريق الكتابة.
وهكذا تتضح أهمية وحتمية فهم ظروف وملابسات كتابة النص, بدلًا من الانشغال بدراسة وقت الكتابة. لأن وقت الكتابة قد يأتي بعد قرون أو عقود من وقوع الحدث وربما يتضمن بعض المبالغات أو الإضافات من قبل بعض الكتاب الذين يسخرون تلك الأحداث لإثارة حالة من الصراع الذي يؤيد بعضًا من أغراضهم ومصالحهم السياسية. لذا, عند القراءة عن حدث من الأحداث المؤثرة في تاريخ العلاقات بين العالم الإسلامي والغربي، فلابد من فهم الظروف السياسية السائدة على الصعيد العالمي وقت وقوع تلك الأحداث
. . أستاذ زائر في معهد الدراسات العربية والإسلامية ـ جامعة إكستر ـ بريطانيا |
كَداء و كُدا و كُدي
د. حياة بنت مناور الذيابي الرشيدي
الهجرة النبوية
من كتاب: دراسة في السيرة-لعماد الدين خليل
كتاب اليمين واليسار في الإسلام والقراءة المؤدلجة للتاريخ
د. مصطفى عطية جمعة
مقدمات كتاب كليلة ودمنة، قراءة في منظور تاريخي ثقافي
د. مصطفى عطية جمعة