هايدن وايت بالعربي 


بقلم : أ.عبدالله العبيد

بقلم : أ.عبدالله العبيد

 (يهدف هذا المقال للتعريف بهايدن وايت و أهم أفكاره التاريخية، مؤلفاته، مؤلفاته المترجمة للعربية، و ما كتب عنه عربيا)

 

صدر قبل ثلاثة أعوام عن هيئة البحرين للثقافة والآثار أول كتاب مترجم للعربية للمؤرخ الأمريكي و "فيلسوف" التاريخ هايدن وايت "محتوى الشكل: الخطاب السردي والتمثيل التاريخي" ترجمه للعربية نايف ياسين ومراجعة فتحي المسكيني. ورغم أن الترجمة جاءت متأخرة نظرا لأن الكتاب طبع أول مرة سنة ١٩٨٧، إلا أن هذه المبادرة قد تكون مشجعة لدور النشر العربية لترجمة أعماله الأخرى وخاصة أهم كتبه "ماوراء التاريخ Metahistory". قبل الشروع في استعراض الكتاب المترجم أرى أنه من الأفضل تسليط الضوء أولا على هايدن وايت وأفكاره و أهم كتبه. ليس هذا المقال هو الأول من نوعه في التعريف بهذا المؤرخ فقد كتب عنه كثير من الكتاب العرب واستفاد بعضهم من بعض كتاباته بل كانت هناك دعوات مبكرة لترجمة أعماله للعربية، مثل عزيز عظمة في كتابه "الكتابة التاريخية". وأهم من شرح و حلل فكر هايدن وايت هو المؤرخ اللبناني قيس فرو في كتابه "المعرفة التاريخية في الغرب" معتمدا على بعض كتب هايدن وايت و كذلك على بعض الدراسات الغربية عن هذا المؤرخ، و إن كان قيس فرو أغفل بعض كتب وايت الأخرى و كذلك بعض الدراسات المعاصرة عنه. لكن الاهتمام العربي به (دراسة وترجمة و استعارة) و بغيره من مؤرخي العالم الأنجلو-أميركاني لا يقارن باهتمامهم بنتاج نظرائهم من مؤرخي ومفكري فرنسا عموما و بعض أعلامها خصوصا مثل فوكو، بول ريكور، مدرسة الحوليات، التاريخ الجديد، و إلى حد ما دي سارتو و بول فين، مع أن بعض مفكري التاريخ من العالم الأنجلوأميركاني ترجمت مؤلفاتهم مبكرا (ثم أهمل إعادة طباعتها للأسف) مثل كولنجوود و إدوارد كار، و مؤخرا بيتر بورك.

 

من الصعب تتبع الخطوط العامة لفكر هايدن وايت نظرا لأن كل أعماله (باستثناء كتابه: ما وراء التاريخ) هي مجموع مقالات، كما يذكر ذلك هيرمان بول، أحد أبرز دارسي فكره.[i] لكن بشكل إجرائي يتثمل دوره المؤثر في الفكر التاريخي الغربي عموما في إعادة الاعتبار لمفهوم السرد كمكون رئيسي في الكتابة التاريخية، وما تلا ذلك من مجادلته على حضور المجاز والحبكة في التاريخ وكيف أن هذه الأمور هي التي تضفي المعنى على الكتابة التاريخية وتكشف في الوقت نفسه عن التحيزات الأيدولوجية للمؤرخين. هذه العناصر في نظر وايت جعلته يجادل بجرأة كيف أن كل كتابة سردية تقليدية تاريخية تحمل في طياتها فلسفة تاريخ، و كل كتابة فلسفية تاريخية تحمل في طياتها سردية تاريخية و أن الكتابات التاريخية لا تعكس الواقع الماضي كما هو أو تعني بالحقيقة بقدر ما هي طرق ذهنية ذاتية لا خارجية موضوعية، متعددة و متحيزة لعرض حقائق جزئية ماضية متناثرة. قادته هذه الافتراضات إلى الدعوة لتخطي النظرة الفلسفية الوضعية للتاريخ في الفكر الغربي التي أرادت تجعل من التاريخ علما يقينيا مبني على التجربة والموضوعية والحيادية المطلقة، أو أيضا رفضه للفكرة القائلة بوقوف التاريخ في مكان وسط يجمع بين الفن و العلم و الفلسفة، و هذه الرؤية الفلسفية الفكرية تأسست منذ القرن التاسع عشر على يد المؤرخ الألماني ليوبولد رانكه. في الحقيقة بعض أفكار وايت متطرفة وموغلة في التعميم وتعاني من ارتباك منهجي ومعرفي و مفاهيمي و لعل هذا مرده إلى حد ما إلى تأثره بشكل شبه تام لما يعرف "بالمنعطف اللغوي" الذي هيمن على الدراسات التاريخية الغربية منذ النصف الثاني من القرن العشرين و حتى الآن و في الوقت نفسه تهميش هايدن وايت لكثير من الحقول المعرفية الأخرى. وقد تعرض نتيجة لذلك لانتقادات شديدة من قبل كثير من المؤرخين والمفكرين إلا أن مؤيديه و معارضيه يكادون يتفقون على أنه أحد أهم المؤثرين في الفكر التاريخي الغربي. لكن هذا المنعطف اللغوي لم يأت فقط من التيارات الحديثة كالشكلانية/ البنوية أو التفكيكية ما بعد البنوية، و إنما أتت من استمدادات فلسفية أعمق تجد جذورها في فكر المؤرخ الإيطالي جيامباتستا فوكو (في القرن السابع و الثامن عشر) "مؤسس" الفكر التاريخي الغربي (ما بعد القرون الوسطى) و الذي أثر في هايدن وايت أثناء دراسته للدكتوراة. وإلى جانب فيكو نتلمس أثر فلسفة كانط النقدية في كتابات وايت باعترافه هو.[ii]

 

هذه الأفكار والآراء مبثوثة في ثنايا كتبه لكن أهم كتاب عبر عنها هو "ما وراء التاريخ" والذي صدر في نفس العام (١٩٧٣) الذي صدر فيه كتاب "تأويل الثقافات" لكليفورد غيرتز أحد أهم الكتب في مجال الأنثروبولوجيا "علم الإناسة" والثقافة. عمل وايت في كتابه السالف الذكر على دراسة ثمانية من المؤرخين و الفلاسفة الأوروبيين المؤثرين في الفكر التاريخي الغربي في القرن التاسع عشر، و قد استغرق العمل على هذا الكتاب عشر سنوات !! وظف خلالها مجموعة من النظريات والمناهج قادته إلى صياغة نموذج تفسيري لتحليل و فهم الكتابات التاريخية لعله الأول من نوعه في مجال التاريخ، كما يقول ألن مونسلو.[iii] و لعله مهد لهذه الآراء عبر الهجوم على الأفكار السائدة في الفكر التاريخي الغربي من خلال مقالات أهمها “عبء التاريخ The Burden of History" و الذي طبع لاحقا في كتاب ضم مجموعة من المقالات الأخرى و كان عنوانه " مدارات الخطاب Tropics of Discourse".

 

بالنسبة لكتاب هايدن وايت المترجم للعربية "محتوى الشكل" فهو يضم بين طياته ثماني مقالات كتب جلها في ثمانينيات القرن العشرين، أي بعد صدور كتابه الرئيسي "ما راء التاريخ" وبعد تبلور أفكاره الأساسية في الحقل التاريخي. وعنوان الكتاب فيه تأكيد لتحدي هايدن وايت على أن شكل وطريقة كتابة التاريخ لا تقل أهمية وقدرة تفسيرية و رؤية تحيزية عن المحتوى: أي المعلومات و الحقائق التاريخية المتضمنة بين دفتي أي كتاب تاريخي. ولهذا يقول في مقدمة الكتاب "السرد ليس مجرّد شكل خطابي حيادي قد يستخدم أو لا لتمثيل الأحداث الحقيقية من حيث هي سيرورات تطوّر، بل ينطوي على خيارات أنطولوجية ومعرفية ذات استتباعات أيدولوجية، بل حتى سياسية متمايزة".[iv] إذا حول العلاقة بين "الخطاب السردي والتمثيل التاريخي" كتب هايدن وايت هذه المقالات التي جاء بعضها على طريقة حوار واستعراض أفكار بعض المفكرين و المؤرخين أمثال دوريسن، فوكو، و ريكور. والمقال المتعلق بريكور في الحقيقة قد ترجم مسبقا إلى العربية على يد سعيد الغانمي الذي ترجم مجموعة مقالات عنه في كتاب عنونه ب "الوجود والزمان والسرد" وطبعه المركز الثقافي العربي عام ١٩٩٩. لكن الغريب أن مترجم هايدن وايت لم يشر إلى الترجمة السالفة الذكر. الأمر الأخير أن هايدن وايت أثار في كتابه قضية التمثيل والسرد "الموضوعي" و "الحقيقي" لقضية الهولوكست خاصة وأن منتقديه اتهموه بالنزعة النسبية الشكية للأحداث التاريخية وطريقة كتابتها. وقد حاول أن يوضح الأمور من وجهة نظره والتي يبدو أنها لم تكن كافية مما جعله لاحقا يخصص مقالا مطولا في هذا الموضوع في كتاب أشرف عليه المؤرخ اليهودي شاؤول فريدلاندر.[v]

نأمل أن تكون ترجمة كتاب "محتوى الشكل" إلى العربية بداية لترجمة بقية أعمال هايدن وايت وغيره من المؤرخين و مفكري التاريخ سواء في الغرب أو الشرق. فالترجمة تثري حقل الدراسات التاريخية في عالمنا العربي والإسلامي و تفتح الباب للاستفادة المعرفية من الآخر بشرط أن نتعامل معها بعقلية نقدية واعية تستنيم الحق و الحقيقة و الاستفادة المعرفية و تنأى بنفسها عن الانبهار و الاتباع الأعمى أو الانغلاق و الرفض الغير مبرر.

 



[i] Herman Paul. Hayden White. Cambridge: Polity Press, 2011. 7

[ii]لعبدالوهاب المسيري رحمه الله دراسة مقارنة قيمة بين فيكو و كانت في كتاب رحابة الإنسانية والإيمان”.

[iii] Munslow, Alun. Deconstructing History. 2nd ed. London: Routledge, 2006.

[iv] محتوى الشكل، وايت، ١٩

[v] White, Hayden. "Historical Emplotment and the Problem of Truth." In Probing the Limits of Representation: Nazism and the "Ffinal Solution". edited by Saul Friedländer. Cambridge, MA: Harvard University Press, 1992. White, Hayden V. Figural Realism: Studies in the Mimesis Effect. Baltimore, MD: Johns Hopkins University Press, 2000.