نظرات في القراءة الماركسية للتاريخ العثماني5 |
|
محمد شعبان صوان |
-حقيقة وضع غير المسلمين في الدولة العثمانية: وهذه الصورة المركبة لوضع غير المسلمين في الدولة تتعارض جذرياً مع الصورة الإيديولوجية المصطنعة: "عكست التركيبة السكانية للسلطنة العثمانية في القرن السادس عشر، إلى حد بعيد، الموروثات البيزنطية والتركية والفارسية والعربية والبلقانية وسواها. ورغم زعامتها للعالم الإسلامي من حيث القوة العسكرية الضاربة، فإن الاختلافات المذهبية والعرقية بقيت فاعلة في داخلها ولم يكن من السهل تجاوزها. والشعبوية العثمانية السابقة باتت عاجزة عن إدارة الصراع في السلطنة الجديدة المترامية الأطراف، والمتعددة الأجناس والطوائف المذهبية" (ص 29) ثم يدخل في عملية إطراء ذاتي للمنهج الاجتماعي (الماركسي) القادر أكثر من غيره على تحليل طبيعة النظم العثمانية الطبقية. ولكننا بكل أسف نرى صورة مغايرة في التاريخ للوضع العثماني لا تتفق مع هذه المنهجية الأقدر من غيرها، لأن وضع غير المسلمين لم يكن محكوماً بالصراع المزعوم، وفي ذلك يتساءل دونالد كواترت هل كان المجتمع الإسلامي في طوره العثماني الحديث "مقسماً إلى طوائف دينية أو ملل منعزلة بعضها عن بعض ودون أي تواصل اجتماعي ويعيشون في جو من الكراهية المتبادلة حيث كان المسلمون يكرهون النصارى والنصارى يكرهون اليهود، واليهود يكرهون النصارى الذين كانوا بدورهم يكرهون المسلمين" ؟ وهل كانت الصراعات القومية الدموية التي اندلعت في آخر سنوات الدولة العثمانية "وليدة أحقاد تاريخية قديمة" بين الأتراك والأرمن والأكراد والعرب واليونانيين؟ يكذّب المؤرخ كواترت التصور المشوه السابق ويقول إن هذه الصورة تجافي الحقيقة تماماً، وإنه بالرغم من الكثير من الأفكار المغلوطة عن التعايش بين الأقوام والطوائف المختلفة في الدولة العثمانية، فقد كانت العلاقات بينها جيدة نسبياً وإن هذه الأقليات كانت متمتعة بحقوق عثمانية وحماية أكثر من مثيلاتها في الممالك الأوروبية الأخرى كفرنسا وإمبراطورية الهابسبورغ، وقد كانت الدولة العثمانية تعترف باستقلال ذاتي للطوائف غير الإسلامية داخل أراضيها، فكانت تتعامل مع هذه الطوائف بواسطة زعمائها وممثليها كما كانت لكل طائفة محاكمها الخاصة التي تفصل بين المتخاصمين وفق قوانينها الدينية الداخلية، ولم تكن الخدمة العسكرية مطلوبة من غير المسلمين، ولكن كل ذلك لا يعني وجود أسوار عالية فصلت بين الطوائف كما حدث في الزمن الأمريكي، وكان الكثير من الناس يعيشون في أحياء سكنية مختلطة، وكانت الطوائف "تعيش في وئام وتتعاون في شتى الأمور" ،بل إن العثمانيين غير المسلمين كانوا يلجئون أحياناً إلى الشرع الإسلامي لإنصافهم بدلاً من قوانينهم الخاصة وذلك بسبب أحكامه التي توزع الإرث على جميع أفراد الأسرة وتحريمه تزويج الفتاة دون موافقتها .
يقول المؤرخ الأمريكي زاكري كارابل :" إن هيئة الإدارة البيروقراطية العثمانية بدورها لم تمارس التمييز بناء على الدين أو العرق...كان ثمة خليط عجيب من التتار، والصرب، واليونان، والعرب، والبربر، والأقباط، والأرمن، واليهود، ومن المسلمين السنة والشيعة، والدروز، والنوبيين، والسلاف، والهنغار، والكرج الجورجيين، وبالطبع من الترك، يؤلفون جميعاً مهرجاناً من اللغات والعادات والطقوس. حتى إن البلاط العثماني في اسطنبول والعديد من المدراء الإقليميين استعانوا أيضاً بالبنادقة والجنويين والفلورنسيين والرومان فضلاً عن التجار والتراجمة من فرنسا والنمسا وإسبانيا وإنكلترا، والواقع أنه فيما يخص الدولة العثمانية لم يكن هناك أي شيء تركي خالص، إلا في الآونة التي تمسكت فيها الطبقة الحاكمة بمبدأ التتريك في خاتمة القرن التاسع عشر...إن الإمبراطورية لم يكن لها إدارة متعددة الثقافات فحسب بل وسلطان متعدد الثقافات أيضاً" .
ويقول ألبرت حوراني:" وقد أدت السياسة المالية العثمانية وازدياد التجارة مع أوروبا إلى تعاظم أهمية المسيحيين واليهود في حياة المدن، وكان اليهود ذوي نفوذ كمقرضين وصرافين للحكومة المركزية أو لحكام الولايات، والملتزمين بالضرائب وعلى صعيد آخر كحرفيين وبائعين للمعادن الثمينة، وكان التجار اليهود ذوي أهمية في تجارة بغداد، وفي تونس والجزائر كان اليهود وكثير منهم ذوو أصل إسباني مسيطرين على عملية التبادل مع البلدان الواقعة إلى الشمال وإلى الغرب من البحر المتوسط، وكانت العائلات اليونانية التي تعيش في حي "الفنار" في استنبول تسيطر على معظم التجارة بالحبوب والفراء مع البحر الأسود. ولعب الأرمن وراً هاماً في تجارة الحرير مع إيران. وفي حلب وأماكن أخرى كان يعيش فيها التجار الأوروبيون عمل المسيحيون كوسطاء لهم وساعدوهم في شراء البضائع للتصدير، وفي توزيع ما يجلب منها من أوروبا. وكان للمسيحيين السوريين دور هام في التجارة بين دمياط والساحل السوري، وعمل الأقباط المسيحيون محاسبين ومدراء لدى كبار الموظفين وملتزمي جمع الضرائب في مصر" .
ونخلص من ذلك إلى وجود هوة واسعة بين السرد الإيديولوجي الذي يصب التاريخ في قالبه قسراً والسرد التاريخي الملتزم بالوقائع الحقيقية.
- ومن الصفات الفريدة التي تحلى بها الحكم العثماني ما رواه السفير النمساوي في بلاط السلطان سليمان جيسلان دي بوسبك الذي بُهر برعاية العثمانيين للمواهب واهتمامهم باجتذابها وتنميتها حتى أصبح كل إنسان يعتمد على مجهوده ويفخر بأنه وصل إلى المعالي بقدراته الذاتية رغم تواضع أصله مما حرم عديم الشرف والجاهل والكسول والعاطل من تبوء المناصب الرفيعة، " وهذا هو السر وراء نجاح العثمانيين في كل عمل أقدموا عليه، فتحولوا إلى جنس ساد العالم كله، واتسعت رقعة أراضيهم إلى هذا الحد" ، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا، كما يصفها، تعتمد الأحساب والأنساب في تقويم البشر، وكانت تهتم برعاية مواهب الحيوانات أكثر من مواهب الرجال، وتفصيل ذلك يطلعنا على سر من أسرار قوتنا السابقة وضعفنا الحالي: لقد خدم أوجير جيسلين دي بوسبيك سفيراً لإمبراطورية الهابسبورغ النمساوية في الدولة العثمانية بين سنتي 1554-1562،أي في عصرها الذهبي زمن السلطان سليمان القانوني،وكتب في سنة 1581 كتاباً عن سنوات تجربته فصل فيه انطباعاته عن الدولة العثمانية و"مدح النخبة المدنية والعسكرية العثمانية باعتبارها نخبة تُختار على أساس الكفاءة" كما يقول المؤرخ الأمريكي زكاري لوكمان، ومما قاله بوسبيك في هذا المجال:" لا يدين أي رجل بمكانته إلى أي شيء سوى جدارته الشخصية وشجاعته، ما من أحد يتميز عن الآخرين بفعل ميلاده، ويسبغ الشرف على كل إنسان وفقاً لطبيعة واجباته والمناصب التي شغلها...وعلى ذلك كان الشرف والوظائف والمناصب الإدارية عند الأتراك (العثمانيين) مكافآت على القدرة والجدارة، ولا يحصل غير الشرفاء، والكسولون، والمسترخون أبداً على تميز، وإنما يبقون مغمورين ومحتقرين، لهذا نجح الأتراك (العثمانيون) في كل شيء حاولوا عمله وأصبحوا عرقاً سائداً ويوسعون يومياً حدود حكمهم" ، ويعقب المؤرخ لوكمان إن بوسبيك يلاحظ بالمقابل باشمئزاز ملحوظ أن "طريقتنا مختلفة تماماً، ليس هناك مكان للجدارة، وإنما يعتمد كل شيء على الميلاد، فاعتباراته وحدها هي التي تفتح الطريق إلى موقع رسمي عال" .
ويقارن في مكان آخر بين اهتمام العثمانيين بالإنسان واهتمام الأوروبيين بالحيوان، فيقول "إن الأتراك يُسرّون إذا هم ظفروا برجل فريد المواهب فكأنهم كسبوا تحفة ثمينة وتجدهم لا يبخلون بأوقات عملهم ولا بجهدهم للأخذ بيده، خاصة إذا رأوا أن له استعدادات كبيرة في فن الحرب. أما نحن فمختلفون كثير الاختلاف عن الأتراك لأننا إذا وجدنا كلباً أو بازاً أو حصاناً، نُسرّ بذلك ولا نألو جهداً في الوصول به إلى منتهى الكمال، ولكن إذا صادف أن وجدنا رجلاً له استعدادات فائقة فإننا لا نكلف أنفسنا عناء استكمال قدراته، ولا نفكر في وجوب تربيته، فنحن نجد متعة فائقة عندما يقدم لنا حصان أجلّ الخدمات وكذلك باز أو كلب روّضا الترويض اللائق بينما يحصل الأتراك على خدمات أفضل بكثير من إنسان ربي تربية كاملة مادام أن طبيعة الإنسان هي أجلّ بالاعتبار من طبائع الحيوانات" .
ومصير الشعوب إلى اللحظات العثمانية الأخيرة يوثق أفضلية وضعها في الدولة الذي لم يكن العزوف عنه بعد ذلك نتيجة أي انهيار اقتصادي وذلك خلافاً لدعوى الاستنزاف، ويفند كواترت وجود دافع يتعلق بتردي الأحوال الاقتصادية في الولايات البلقانية العثمانية لدى الحركات الانفصالية ،والتي كانت تحركها عوامل خارجية روسية وأوروبية يهمها إثارة الاضطرابات للعثمانيين كما في الحالة الأرمنية ،ويؤكد هذا المؤرخ أن بلاد البلقان كانت تنعم بازدهار اقتصادي عشية انفصالها عن الدولة العثمانية وما لبثت بعد استقلالها أن ساءت أوضاعها المعيشية بطريقة أصبحت معها في حالة أسوأ مما قبل استقلالها .
ونجد اليوم مفارقة كبيرة بين الحديث الماركسي عن فشل العثمانيين في علاج الانقسامات الاجتماعية مع استقرار دولتهم أكثر من ستة قرون، والحديث عن المنهج "العلمي" في علاج هذه الانقسامات مع أنه لم يعمر سوى عُشر الفترة العثمانية ثم انطلقت الصراعات بعد زوال قبضته الحديدية لتدمر الأخضر واليابس والحي والميت في بقاع واسعة من المنظومة الأوروبية الشرقية، إضافة إلى الانقسامات السياسية والطائفية والاجتماعية والدينية والمذهبية التي أحيا التنوير الغربي عظامها من الرميم في بلادنا بعد دخول "محرريها" المحتلين الذين أطلقوا الشرور من عقالها وهذا هو النموذج الذي يعيَر العثمانيون لفشلهم في اتباعه.
-دونالد كواترت، ص 305-308.
-نفس المرجع، ص 312.
-يوجين روجان، العرب من الفتوحات العثمانية إلى الحاضر، كلمات عربية للترجمة والنشر، القاهرة، 2011، ترجمة: محمد إبراهيم الجندي، ص 42.
-زاكري كارابل، ص 220-221.
-بشارة دوماني، إعادة اكتشاف فلسطين: أهالي جبل نابلس 1700-1900، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1998، ص 352، هامش رقم 8.
-زاكري كارابل، ص 208-209.
-ألبرت حوراني، ص 271.
-أكمل الدين إحسان أوغلي (تحرير)، الدولة العثمانية: تاريخ وحضارة، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، استانبول، 1999، ترجمة: صالح سعداوي، ج1 ص 585، (الأستاذ الدكتور بهاء الدين يدي يلديز، الباب السادس: المجتمع العثماني، الفصل الثالث: الدينامية الاجتماعية في المجتمع العثماني).
-زكاري لوكمان، تاريخ الاستشراق وسياساته: الصراع على تفسير الشرق الأوسط، دار الشروق، القاهرة، 2007، ص 96.
-أندري كلو، ص 314.
-دونالد كواترت،ص142 و 327
|
نظرات في القراءة الماركسية للتاريخ العثماني7
محمد شعبان صوان
نظرات في القراءة الماركسية للتاريخ العثماني6
محمد شعبان صوان
نظرات في القراءة الماركسية للتاريخ العثماني (4)
محمد شعبان صوان
نظرات في القراءة الماركسية للتاريخ العثماني (3)
محمد شعبان صوان