المدونات

  • المحتوى المنشور يمثل رأي كاتب المدونة ولا يعكس وجهة نظر إدارة المركز.
  • المحتوى المنشور لم يخضع لاشتراطات التحكيم العلمي.

نظرات في القراءة الماركسية للتاريخ العثماني13 


محمد شعبان صوان

محمد شعبان صوان

 من هو العميل وهل كان للرأسمالية دور إيجابي؟ ثم القفز من القرن السادس عشر لاستحضار أمثلة من القرن التاسع عشر حين كانت الدولة في مرحلتها الأخيرة ولا يقاس ضعفها آنذاك على زمن القوة السابق الذي جرى تهميشه وتهميش انتصاراته بجرة قلم، ومع ذلك الضعف كانت تحالفاتها حسب مصالحها لا حسب مصالح الأوروبيين ولهذا كانت كثيراً ما تحالف طرفاً أوربياً ثم تنقلب عليه إذا تحول إلى عدو، فصفة "الارتماء في أحضان أوروبا" لا تنطبق على من حاربت كل دول أوروبا حتى في لحظاتها الأخيرة، ولهذا كانت القوى الأوروبية "متفقة دوماً على إضعاف السلطنة تمهيداً لإزالتها من الوجود" خلافاً للعملاء الذين اكتسبوا صفات النهضويين ومع ذلك كانوا أدوات طيعة في أيدي الغرب فأبقى عليهم إلى اليوم، ولكن الغريب أن توصم الدولة العثمانية بذلك التحالف مع الاستعمار (ص 29)، ولا يوصم محمد علي نفسه الذي حصل على الإذن البريطاني الفرنسي للانطلاق إلى إضعاف الدولة العثمانية ، بل يحصل هو وغيره من القوى "النهضوية" التي ارتمت بالفعل في أحضان الغرب الأوروبي على كيل المديح بلا حساب وذم من تصدى لها "تحت ستار" محاربة التغريب والاستلاب والجاسوسية، بل حتى أن يتم امتداح هذه القوى حتى مع الاعتراف بارتباطها الوثيق بالقوى الاستعمارية الرأسمالية، وهنا نرى ازدواجية المعايير في وزن الارتباط بالغرب بين ذم العثمانيين ومدح معارضيهم على الفعل نفسه مع أن الواجب كان دراسة الحدث الذي خرجنا منه جميعاً خاسرين بعدما تسابقت أطرافنا لنيل الرضا الغربي للاعتبار بكل ذلك وليس الاصطفاف الواضح إلى جانب "تحولات التاريخ الكبرى" التي صنعتها هذه القوى الاستعمارية وكان منها القضاء على الدولة العثمانية، وهو موقف يعيدنا إلى الرؤية الإيجابية لدور الاستعمار القدري في التاريخ، باسم العلم طبعاً، في موقف يضاهي موقف كل الذين راهنوا على الغرب فيما سبق وبهذا لا يكون هناك وجه للاعتراض على العثمانيين في "تحالفهم" مع الاستعمار ما دام هذا الموقف مبرراً بكونه منحازاً إلى التحولات الكبرى التي صنعها الغرب، وهذا هو رأي كل من استظل بالمظلة الغربية يوماً ما، فعلام الإنكار على البعض وتبرير الآخرين؟

إن الزعم بأن حكم السلطان كان استبدادياً مطلقاً لا تحد من سلطته أي مجالس أو مؤسسات أو قيود شرعية، زعم لا يستند إلى واقع حقيقي ومصدره غير محايد (ساطع الحصري) ويخالف ما أثبته بعده جمع من المؤرخين الغربيين والشرقيين أنفسهم، وإدارة شئون المجتمع لم تكن خاضعة لسلطات الباشوات مطلقي التصرف، هذه كلها تعميمات تجاوزها البحث الحديث، وتركيب المجتمع العثماني كان أكثر تعقيداً من هذا التبسيط العمودي، وقد أثبتت الدراسات المستفيضة التي طالب بها الكاتب عكس ما ذهب إليه، وإذا كان الانحلال هو سبب التدهور كما يقر الكاتب فإن الأمر إذن بعيد عن كونه مجرد خديعة مارستها السلطة الحاكمة لتثبيت مواقعها ومكاسبها الطبقية، فبحث الانحلال والتدهور بحث طبيعي في تدرج جميع الدول من القوة إلى الضعف وهي ظاهرة ليست مقصورة على الدولة العثمانية، وهو بحث مغاير لموضوع الخداع والتضليل في سبيل الحصول على المكاسب الطبقية الذي ينطبق في التاريخ على الغرب الاستعماري والشرق السوفييتي، ومن المبالغة الادعاء بأن عامل الهدم كان في هذا التحول من الصيغة الشعبوية إلى الإيديولوجيا السلطوية ما جعل القوى القومية والطبقية تسعى للانفصال لا سيما مع الاعتراف بدور الغرب الرأسمالي في توجيه الضربات القاصمة وبارتباط تلك القوى الانفصالية به، ذلك أن معظم الشعوب فضلت الاستمرار في دائرة الدولة بعيداً عن الانفصاليين كما سبق ذكره، وكانت القوى الانفصالية مجرد أدوات لا تخفي حقيقتها دعاوى النهوض والاستقلال وقد لاحظ المؤرخون أن ما كان يحفز الثورات الاستقلالية ليس "التحولات التاريخية الكبرى" بل التدخل الأجنبي الذي يستهدف تحقيق مصالحه الحصرية (بأدوات الارتهان المحلية بتعبير المؤرخ الأمريكي زاكري كارابل ) بدليل أن معظم هذه الحركات فشل في تحقيق أحلامه بعد رحيل العثمانيين نتيجة نفس السبب الذي عمل إلى جانبها ضد العثمانيين وهو التدخل الأجنبي الذي حرف مسار الأحداث إلى صالحه في الحالات العربية والأرمنية واليونانية والكردية والبلقانية مما يجعل إطراء إيديولوجيا الانفصال باسم عصر القوميات ودولها الحديثة ونمط الإنتاج الرأسمالي خالياً من أي مضمون يمكن الإفادة منه ولا يستدعي هذه الحفاوة بالتقدم المجهض في ظل التطورات التي تحققت فعلاً برحيل الدولة العثمانية وانفصال "القوى القومية والطبقية" عنها حيث لم تتحقق سوى مخططات التقسيم والاستغلال الاستعمارية (مقارنة بين ما قبل وما بعد في البلقان كما سبق ذكره)، وإذا كان التاريخ يسير باتجاه عصر القوميات ودولها الحديثة ونمط الإنتاج الرأسمالي فما بال كل هذه "التحولات التاريخية الكبرى" لم تجد طريقها إلينا بعد التحالف مع أوروبا المتطورة لتحقيقها مع الاعتراف بكونها استعمارية لنجد أن نفس هذه القوى "القومية والطبقية" التي عملت للاستقلال مازالت تحافظ على نفس الأوضاع القديمة بالتحالف مع أوروبا التي أصبحت الآن معادية لمصالح الجماهير الشعبية العربية مع أنها في الفقرة السابقة كانت عنوان عصر الحداثة ونمط الإنتاج الرأسمالي فصرنا مشتتين بين اتباع وصفة الحداثة بالتحالف مع أوروبا رغم استعمارها والوقوع في أسر أطماعها نفسها عند التحالف معها. والغريب بعد كل هذا أن تذم نفس القوى التي تم مديحها لأنها صنعت الاستقلال عن العثمانيين بالتحالف مع أوروبا كونها قامت بالحفاظ على نفس الواقع العثماني السابق بالتحالف مع أوروبا !
ورغم جرائم أوروبا وعجز حلفائها عن تحقيق أحلامهم بل أوهامهم من التحالف معها يظل لوم العثمانيين سواء كانوا حاضرين أو بعد رحيلهم هو عنوان النقد الموجه للواقع الشعبوي ونمط إنتاجه السابق على الرأسمالية الذي كان لينين قد فضحه وبين أنه مجرد إصلاح ترقيعي للواقع الرأسمالي، ولكننا هنا نحتار أمام هذه الألمعية الماركسية التي أبدلت بثورتها الجذرية أنماط الإنتاج وبنت دولة على الأسس العلمية المتقدمة ثم فوجئنا بانهيارها بعد عمر فرد واحد على أيدي الشعوب التي ادعت الماركسية الدفاع عن مصالحها فإذا بهذه الشعوب ترفض هذه الفوقية العلمية وترى مصالحها في جهة أخرى، أم أن الغرب هو الذي أسقط هذه التجربة و"سحقها" وعندئذ فلا داعي للتشبث ب"تحولاته التاريخية الكبرى" لأنها جعلت من أحلام الماركسية "أوهاماً" كما وصفت أحلامنا من قبل ( ص 41).
ويحتار المرء في الذبذبة عند وصف التحالف مع أوروبا، فهو سيء عندما تقوم به الدولة العثمانية، ولكنه يصبح جيداً عندما تقوم به القوى الاستقلالية، ثم يرجع سيئاً عندما تصبح هذه القوى نفسها في السلطة وتتحالف مع أوروبا ضد الجماهير الشعبية على غرار العثمانيين، فهل كانت أوروبا معادية لمصالح الجماهير العربية عندما كانت متحالفة مع العثمانيين ثم أصبحت إلى جانب هذه المصالح لما تحالف معها أو بالأصح انضوى تحت أمرها زعماء "النهضة" بدءاً من علي بك والمماليك في مصر مروراً بمحمد علي باشا ثم الشريف حسين؟ ويخفي التحليل الطبقي الإيديولوجي طبيعة دولة التجزئة العربية بهويتها ونظمها وقوانينها وسياساتها وحكامها وتبعيتها، ولا يرى كل صفاتها المناقضة لطبيعة الدولة العثمانية وارتباطاتها المخالفة لسياسات العثمانيين، بل يراها مجرد استمرار لهم رغم الهوة العميقة الفاصلة بين العصرين بتغير القوى العظمى المهيمنة وتحول مسار الفوائد من الواقع من شعوب المنطقة التي كانت موحدة إلى القوى الخارجية ، التي فرضت عليها التجزئة والانقسام والترحيل والعداوات، وهذا العمى في التحليل الطبقي هو الذي أدى إلى الخطايا الفادحة في الحكم الماركسي الذي لم يستطع الاستمرار إلا برهة من الزمن نفضته بعدها نفس الشعوب التي ادعى حماية مصالحها من أعدائها الطبقيين الذين حلت نخبته محلهم كما يُزعم أن النخب العربية المهيمنة حلت محل العثمانيين بنفس طرائقهم، بهذا تبين أن كل الصفة العلمية التي كانت تلقى بفوقية على المعارضين ليست سوى صفة إيديولوجية كالتي حاولوا وصم الآخرين بها.
  -د. جوزف حجار، أوروبا ومصير الشرق العربي: حرب الاستعمار على محمد علي والنهضة العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1976، ترجمة: بطرس الحلاق وماجد نعمه، ص 37-47 و55 و 96 و 135 و 142 .
-رءوف عباس، صفحات من تاريخ الوطن، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 2011، تحرير:عبادة كحيلة، ص118-122.
-يوجين روجان، ص 101.
  -زاكري كارابل، ص 302.
  -ألبرت حوراني، ص 352.