الحضور الأندلسي في الحياة الإسبانية المعاصرة 


الباحث في التاريخ الاندلسي سعد الغامدي

الباحث في التاريخ الاندلسي سعد الغامدي

إن الحضارة الإسلامية في الأندلس لم تكن حضارة عابرة، بل إنها وضعت بصماتها في كل تفاصيل الحياة، حتى إننا اليوم - وبعد مرور أكثر من خمسة قرون على نهاية دولة الإسلام فيها - نجد حضورها في شتى تفاصيل حياة المجتمع، في العمران والثقافة وهنا أعرض شيئا من ذلك:

- العمران:

في قرطبة وإشبيلية وغرناطة مثلا نجد مآثر العمارة الإسلامية هي الجاذب الأكبر للسياحة وإليها تشد الرحال من بلدان المعمورة، فالجامع الأعظم والزهراء والقنطرة أبرز معالم قرطبة، وقصر الحمراء وحي البيازين الأندلسي أبرز معالم غرناطة، والصومعة الموحدية المنيفة وبقايا الجامع والقصر وبرج الذهب أبرز معالم إشبيلية. وفي طليطلة ما زالت المدينة القديمة التي يسكنها الناس اليوم تحتفظ بخططها الإسلامية القديمة، وفي أنحائها تنتشر بقايا المساجد والكنائس النصرانية والكنس اليهودية التي بنيت زمن المسلمين. والحي المحيط بالجامع في قرطبة وكذلك حي البيازين في غرناطة كلها أحياء أندلسية بامتياز في مبانيها التاريخية ومبانيها المحدثة المنشأة على الطراز الأندلسي. والأعجب أن الأسبان ما يزالون حتى اليوم يتفيؤن ظلال تلك الحضارة في أخص شؤونهم، يقول د.خافيير مارتين مدير متحف التاريخ في بلنسية في مؤتمر "أيام ابن الأبار الثقافية" الذي عقد قبل سنوات في بلنسية: "هذا سِر أفصح عنه لأول مرة وهو أن المسلمين صنعوا المجاري في بلنسية على هيئة من الدقة والإتقان والإحسان إلى غاية لم يحتج الأسبان إلى تجديدها إلا في أوائل القرن العشرين" .

وحين تتجول في هذه الأحياء ترى الأندلس ماثلة بين عينيك، ففي كل زاوية حكاية وفي كل منزل قصة. منازل قوم حدثتنا حديثهم ولا شئ أحلى من حديث المنازل والأسبان القاطنون في هذه المدن - على أنهم نصارى - يفتخرون بأنهم امتداد للحضارة الأندلسية، ويشعرون بالصلة العميقة بينهم وبين التاريخ الأندلسي ويدافعون عنه.

قد يعتقد البعض أن هذه مبالغة لكني سأضرب مثالين ومن قرطبة فقط شاهدا على هذه العلاقة:

1- في القرن الثامن عشر عزمت الكنيسة في قرطبة على هدم الجامع الأعظم وبناء كنيسة على شاكلة ما صنع بجامع إشبيلية، فخرج وفد كبير من أهالي قرطبة إلى ملك إسبانيا حينها ليطلبوا منه إيقاف الكنيسة، وما كان من الملك إلا الاستجابة لهم.

2- بعد سقوط قرطبة في يد النصارى أُطلق على جامع قرطبة "المسجد الكاتدرائية" ، وقبل سنوات حذفت الكنيسة اسم "المسجد" فأصبح "كاتدرائية قرطبة" وسعت إلى امتلاك المبنى بعد أن كان ملك عام، فوجه هذا بالاستنكار العام ورفضت بلدية قرطبة تعديل مسميات اللافتات في الشوارع، وخرجت مظاهرات كبيرة في قرطبة كان شعارها "المسجد في قلوبنا"، حتى رضخت الكنيسة لمطلب القرطبيين.  - الثقافة والفنون:

يقيم الإسبان في عدد من المدن والقرى الأندلسية مهرجانات احتفاء بالحضارة الأندلسية، ومن أشهر هذه المهرجانات "أيام الثقافة الإسلامية" ببلدة المنستير غرب الأندلس، وتشرف عليه بلدية المنستير وجامعة إشبيلية ويتخذ من مسجد القرية - أقدم مسجد قائم في أوروبا بناه موسى بن نصير - رمزا له وشعاره باللغة العربية "يولد الناس أحرارا سواسية"، وفيه ترتدي البلدة حلة أندلسية فتقام فيه ندوات عن الحضارة الأندلسية ويرتدي الناس أزياء أندلسية قديمة، وتصنع المأكولات والحلوى الأندلسية. وفي القرى البيضاء التابعة لمدينة ابن السليم، وفي قرى جبال البُشُرَّات، وفي ضواحي بلنسية، وفي مارتلة بالبرتغال، مهرجانات أندلسية سنوية. ومن أوجه الحضور الثقافي الأندلسي الاحتفاء بالأعلام الأندلسيين في مدن الأندلس، ففي قرطبة نجد تمثالا لابن حزم وآخر لابن رشد وآخر للطبيب الغافقي وللحكم المستنصر ولموسى بن ميمون، وفي الجزيرة الخضراء للمنصور بن أبي عامر، وفي سرقسطة لابن باجة وغيرها كثير، كما قامت مؤسسة البريد بإصدار طوابع بريدية احتفاء بكثير من هؤلاء الأعلام. والأندلسيون حتى اليوم يسمون بعض شوارعهم وفنادقهم وأسواقهم ومدارسهم بأسماء أعلام أندلسية فمثلا فندق ابن زهر وشارع المنصور ونفق بني أمية وسوق الأندلس ومدرسة ابن باجه وغيرها مما يتعذر حصره. ومن البصمات الأندلسية في حياة الأسبان في موروثهم الشعبي أنهم لا يزالون يسمون ألآت الغناء باسمها العربي كالعود والبوق والطبل والدف، ويتوارثون رقصات وأهازيج وأصوات تعود إلى العصر الأندلسي من أشهرها "الفلامنكو" الذي يقول عنه المستشرق الإسباني خوليان ريبيرا "ليس إلا أثر من آثار الغناء الأندلسي"، وأشهر فرقة فنية في قرطبة فرقة تسمي نفسها "مدينة الزهراء"، وأقامت بلدية قرطبة نصبا لزرياب احتفاء به.

- اللغة:

اللغة الإسبانية تحوي كثيرا من الكلمات العربية أوصلها بعضهم إلى ثلث اللغة الإسبانية، وفي المعجم الإسباني اليوم 4000 كلمة عربية، وعلى سبيل المثال هذه بعض أشهر الكلمات مما يستعمل حتى اليوم: الزيت - الزيتون - المعصرة - الساقية - القصر - القلعة - الأرز - السكر – البركة- القرية - القيسارية وغيرها كثير. - المؤسسات: إبان دولة الإسلام في الأندلس نشأت بعض المؤسسات السياسية والقضائية والتعليمية واستمرت بعد ذلك إلى يومنا هذا، ومن أشهر المؤسسات الأندلسية المستمرة حتى اليوم محكمة المياه عند مدخل جامع بلنسية، وهذه المحكمة أسسها المسلمون لفصل النزاعات بين المزارعين في شؤون الري، وجعلوا موقعها عند باب الجامع ليتسنى لليهود والنصارى الترافع إليها دون الدخول للمسجد، واليوم تعقد المحكمة عند باب الكنيسة التي بنيت موضع المسجد الجامع، وسنوا لها قوانين ما زال تطبق إلى اليوم. ومن المؤسسات العلمية مدرسة الترجمة في طليطلة وقد كانت في العصر الإسلامي حركة كبيرة لترجمة المصنفات الطبية والفلكية والرياضية من اللغات اللاتينية إلى العربية، واستمرت بعد سقوط طليطلة بشكل عكسي حيث ترجمت المصنفات العربية إلى اللاتينية، ثم تحولت مؤخرا إلى معهد ومؤسسة بحثية لتخريج المترجمين، وما زالت تقوم بعملية الترجمة من العربية إلى الإسبانية.

- المطبخ الأندلسي:

يتوارث كثير من الأسبان اليوم أكلات تعود أصولها للأندلس، فمن ذلك حلوى "المرصبان" التي تصنع في طليطلة والتي تصنع من دقيق اللوز والسكر وقد صنعها الأندلسيون المحاصرون قبيل سقوط طليطلة، والحلوى الجبلية التي تصنع في المنستير ومبتكرها هو الحسين المنستيري في القرن الثاني للهجرة، وحلوى "البستينوس" وهي العجين المقلي المغطى بالعسل، وحلوى السفنج وغيرها . وكذلك الأكلة الشهيرة المسماة "البقية" والتي يشتهر بها شرق الأندلس وخصوصا بلنسية أكلة ابتكرت في العصر الإسلامي حسب قول كثير من المؤرخين الأسبان، وحساء الطماطم البارد ويضاف له الخبز أحيانا. والمطبخ الأندلسي مطبخ كبير مشهور بأكلاته الكثيرة المتنوعة في إسبانيا، وتاريخيا عبرت أكلاته حدود الأندلس إلى بلاد المغرب ووصل بعضها إلى بلاد الشام وما زالت كذلك إلى اليوم. ومن أشهر المطاعم في قرطبة مثلا مطعم "الحصان الأحمر" يقوم بتحضير كثير من الأكلات الأندلسية، وممن زاره ملك إسبانيا السابق خوان كارلوس وزوجته الملكة صوفيا.

- ختاما: كان هذا عرضا موجزا جدا لبعض التأثيرات الحضارية الأندلسية في الحياة الأسبانية المعاصرة من خلال التدوين التاريخي ومقارنته بالواقع، وهذا مسلك بحثي ثري لمن أراد تتبع حضارة المسلمين وأثارها التي تخطت حدود الأندلس لتشمل أوروبا كاملة.