المدونات

  • المحتوى المنشور يمثل رأي كاتب المدونة ولا يعكس وجهة نظر إدارة المركز.
  • المحتوى المنشور لم يخضع لاشتراطات التحكيم العلمي.

الهجرة النبوية 


من كتاب: دراسة في السيرة-لعماد الدين خليل

من كتاب: دراسة في السيرة-لعماد الدين خليل

(من كتاب-دراسة في السيرة-لعماد الدين خليل)
.
وضع رسولنا صلى الله عليه وسلم خطواته الأولى في الدرب صوب المدينة وقلبه يخفق بهذا الدعاء: (وقل ربي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) وكان يعلم جيدا أن حركة الإنسان في التاريخ لا تستقيم وتصل إلى هدفها إلا بأن يرفع الإنسان بصره وفؤاده وعقله وسمعه وحسّه إلى السماء يتلقى عنها الصدق والنصر.. صدق الحركة وانتصار قيمها.. لكنه لم ينس لحظة أن هذا التوجه إلى السماء يجب أن يقترن بثبات الخطى على الأرض، وبتحمل مسؤولية البصر والسمع والفؤاد بأمانة كاملة.. وبصياغة الحرية الإنسانية بما ينسجم، في المدى القريب والبعيد، مع قدر الله ونواميسه وسننه. وبدون هذا التناغم بين مشيئة الله وحرية الإنسان.. بين نور السماء وشفافيتها وبين كثافة الأرض ووعورة الطريق.. بدون هذا الحوار الدائم الفعال بين الإنسان وخالق الإنسان.. بين انطلاق الروح وشد الجسد.. بدون هذا التواصل الدائم.. بين الحضور والغياب.. بين عالم المشاهدة المباشرة والغيب البعيد.. بدون هذا وذاك لن تكون هناك حركة جادة، ولا مصير عظيم.

.

إن الرسول صلى الله عليه وسلم ظل قلبه يخفق بدعاء الله.. وهو يرسم الخطط، ويضع الضمانات، ويهيىء المواد والإمكانات والدفوع الكفيلة بإيصاله إلى هدفه.. لم يجىء هذا الدعاء قبل التخطيط فحسب، ولا جاء بعده فحسب، فليس في علاقة الإرادة البشرية بالمشيئة الإلهية- خلال الحدث- قبلية ولا بعدية.. وإنما تسير الاثنتان في انسجام رائع، لأن هذه من تلك ولأن الإنسان في أصغر جزئيات الحركة وفي أكبرها إنما ينفذ قدر الله وناموسه في الأرض، في مدى الحرية التي اتيحت له. أما أن يجيء الدعاء والتوجه قبل التخطيط فحسب، أو بعد التنفيذ فحسب، فهو من قبيل الثنائيات التي ترفضها مبادىء السماء أشد الرفض لأنها تفصل بين الله والإنسان، وتقسم حظ الاثنين في حركة التاريخ بما لا يتفق أساسا والسنن الكبرى. إن الرسول صلى الله عليه وسلم هيأ الأسباب (الإرادية) الكاملة لنجاح الحركة وهو ينظر إلى الله، ووضع خطواته الأولى على الدرب وهو يدعو الله.. وما لبثت الأسباب أن أتت أكلها، والخطوات أن انتهت إلى هدفها، وظل الرسول ينظر إلى الله ويدعوه.

.

استغرق (هيكل) الهجرة زمنا طويلا.. حمل الرسول وأصحابه معاولهم وبدأوا يحفرون الأسس من أجل أن يستقيم البناء. إن الإسلام جاء لكي يعبر عن وجوده في عالمنا من خلال دوائر ثلاث، يتداخل بعضها في بعض، وتتسع صوب الخارج لكي تشمل مزيدا من المساحات: دائرة الإنسان، فالدولة، فالحضارة. ولقد اجتاز الإسلام في مكة دائرة الإنسان، ثم ما لبثت العوائق السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية أن صدته عن المضي في الطريق صوب الدائرة الثانية حيث الدولة، لأنه بلا دولة ستظل دائرة الإنسان، التي هي أشبه بنواة لا يحميها جدار، ستظل مفتوحة على الخارج المضاد بكل أثقاله وضغوطه وإمكاناته المادية والروحية، ولن يستطيع الإنسان (الفرد) أو (الجماعة) التي لا تحميها (دولة) أن يمارسا مهمتهما حتى النهاية، سيما إذا كانت قيمهما وأخلاقياتهما تمثلان رفضا حاسما لقيم الواقع الخارجي والتجربة المعاشة، ولا بد إذن من إيجاد الأرضية الصالحة التي يتحرك عليها المسلم، قبل أن تسحقه الظروف الخارجية أو تنحرف به عن الطريق، وليست هذه الأرضية سوى الدائرة الثانية، وليست هذه الدائرة سوى الدولة التي كان على المسلمين أن يقيموها وإلا ضاعوا!!