الأندلس.. بين الحالمون والواهمون 


بقلم الكاتب: أحمد السميط

بقلم الكاتب: أحمد السميط

 فهناك من اتجه يميناً، وآخر اتجه يساراً في التعبير عن الذاكرة الأندلسية، فتجد المتحسر المتألم الذي يعتقد أن مآل العودة قريب، ويؤمن بحتمية الرجوع فاتحين محررين تحت شعاد "يالثارات الأندلس وأهله"، وهناك من اكتفى بالزعم بأن الأندلس هي صفحة سوداء من قرون اغتصاب إسلامي لأرض استعادها سكانها الأصليون، ولو بعد حين، والقارئ لكلا الوجهتين يتبين له بالفحص، والتدقيق مدى قصر النظر، وانقطاع الأثر، فهذه الجهات تعتبر قراءة سطحية لقضية أعمق بكثير.

بالنسبة لي حين استرجع ذاكرتي الأندلسية فأنا أقرأ صفحات من الحضارة خالدة، وألتمس آثار من البناء البشري، والعمراني راسخة، واجد شعباً أحب الحياة عاش يغالبها قروناً فنقش فيها بالخط الأندلسي، وإليها انتسب رجالها، وأعلامها فهم أندلسيون، وبها -الأندلس- شيدوا المدن، والحواضر، وأقاموا القرى، وأسسوا الأحياء، فذاكرتي ترى أنه بناء أحسن صقل البشر، وبدورهم جودوا صنع الحجر!
والذاكرة تقودنا لشعب مغلوب اسقط بين يديه فلم يعد له دار تؤويه، ولا عشيرة تحميه، ولا عقيدة تحييه، فهو شعب حورب بمعاشه، وعيشه، ودينه! فلم تبقي آلة البطش الكاثوليكية ولم تذر، ولازالت تعمل عملها قتلاً، وظلماً حتى جاء الطرد الأكبر لذلك الشعب المستصغر عام ١٦٠٩م
ولازالت ذاكرتي تحكي لنا من هم؟ وكيف عاشوا؟ وماذا صنعوا؟ ولا زالت آثارهم، ومعاقلهم باقية، فهي - الأندلس - لازالت موجودة خالدة حية لا كما يتخيلها الثائر الحالم، ولا المتملص الواهم، فجوهر المعرفة هنا أن نعي ماهية القضية لا الحكم بها، والفصل في خيرها، وشرها، ولكي ندرك ماهية الأندلس مثلاً يجب  أن نقرأ المجتمع كيف نما؟ وكيف تطور؟ وكيف صقل؟ وكيف انتهى وتقهقر؟ فكلها عناصر مترابطة تؤسس لفهمنا لهذه الحالة المميزة في ذاكرتنا التاريخية.
ولعل أولئك المتطرفين يميناً، وشمالاً يقدمون نموذج بائس في فهم القضايا التاريخية لأن جل منالهم هو الحكم في أمر الأندلس، والتحقيق في شأن تلك العصور الخالية هل هي ظالمة؟ أم مظلومة؟ وجل ما يبذل من جهد، وعمل في سبيل تأصيل هذه المعطيات دون اتاحة الفرصة أمام فهم الواقع كما وقع لا كما نتوقع.
سلوك التحيز في فرض القناعات على التاريخ تتم بصورة مبالغ فيها في أوساطنا، فالكل يظن أن الحدث التاريخي، بمراحله، كما هي الحالة الأندلسية تمثل نموذج ليثبت نظرية لدى البعض، ويدحض واقع لدى البعض الآخر، فيكون مجال الجدل هو إثبات الرأي المعاصر للواقعة التاريخية، والعمل على اسقاط ذلك الرأي اسقاطاً على ذلك الزمن، وهو أمر من الحتمية يستحيل انطباقه بسبب تغير الكثير من العوامل لعل أبرزها حاجتنا اليوم لترسيخ القناعات المتحيزة، وهذه المسألة تقدم لنا نموذج مبني وفق تصميم مبرمج، وليس نموذج للحقيقة التي كانت، وهو المجال الأكثر صعوبة، والذي يتطلب المزيد من العمق، والفهم. 
الأندلس يجب أن تكون قضية تاريخية بحق، وهذا لكي نخفف على أنفسنا عبئ التفكير بالأسى لسقوطها، أو لفتحها (احتلالها كما يحلو للبعض)، فالمطلوب اليوم ليست القراءة الجنائزية بقدر المطلوب هو القراءة العلمية الرصينة، وهي التي تجعلنا نفهم مساق زمني متكامل، والراجح أن القراءة العلمية هي التي توفر لنا قاعدة متماسكة لفهم تلك الحالة، ومن المؤكد أنها سوف تنعكس إيجاباً على تكوين الحالة في الذاكرة فتكون ذاكرة متفاعلة لأنها فهمت كيف تكونت تلك الحالة، وهو أمر يعصمنا من الذاكرة الخاملة التي تكتفي بشق الجيوب، ولطم الخدود، وهو الفعل الذي يزاوله كلا الفريقين.
ولن أستطرد في وصف القراءة الجنائزية للحالة الأندلسية، ولكن يكفي أن نفهم أن حمل مصطلحات كـ(الفتح/ الإسترداد) على محامل تجعلها محورية في فهم الحالة الأندلسية، وهي لا تعدو اصطلاحات ألفها القارئ، وغرق فيها، وتشبع، بقدر تجعله يغفل عن المحاور الأكثر حساسية كـ(الإحلال) الديمغرافي وتاريخه منذ الحقبة السابقة لوجود المسلمين؛ وصولاً بنزولهم الجزيرة؛ انتهاءً بطردهم، وهو محور يفسر لنا بصورة أشد عمقاً دلالات اصطلاحي (الفتح/ الإسترداد) بصورة تتحاوز التفسيرات السطحية التي يقدمها البعض كقولهم هو ليس فتحاً بل احتلال، والفريق الآخر ينفي وجود مصطلح الاسترداد، ويؤكد أنه وهم حديث لم يوجد في حينه، وهي كلها جدليات الهدف منها التمسك بفكرة متحيزة لا لغرض فهم حالة إنسانية مثيرة للجدل الحقيقي. 
أحمد السميط